تحكي هذه القصة القرآنية البليغة حكاية جماعة من المؤمنين الصادقين، ثبتوا على ايمانهم واخلاصهم العبادة لخالقهم، فحقد عليهم اعداؤهم وعذبوهم عذابا شديدا، حيث حفروا لهم حفراً في الارض ثم أضرموا فيها النار، ثم ألقوا بالمؤمنين فيها.
انها قصة “اصحاب الاخدود” التي حكاها لنا القرآن الكريم باسلوبه البليغ المؤثر في سورة البروج فقال تعالى: “والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود. قتل اصحاب الاخدود. النار ذات الوقود، اذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والارض والله على كل شيء شهيد، ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير، ان بطش ربك لشديد، انه هو يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد.. فعال لما يريد. هل آتاك حديث الجنود، فرعون وثمود، بل الذين كفروا في تكذيب، والله من ورائهم محيط، بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ”.
اختلاف المفسرين
الامام الاكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الازهر يشرح قصة اصحاب الاخدود ويوضح معاني ودلالات هذه الآيات الكريمة. فيقول: اصحاب الاخدود هم قوم من الكفار السابقين، حفروا حفرا مستطيلة في الارض ثم اضرموها بالنار، ثم ألقوا فيها المؤمنين الذين خالفوهم في كفرهم. وأبوا إلا الاخلاص العبادة لله تعالى وحده..
وقد اختلف المفسرون في اهل هذه القصة.. فعن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه أنهم اهل فارس حين أراد ملكهم تحليل زواج المحارم، فامتنع عليه علماؤهم فعمد الى حفر اخدود، فقذف فيه من انكر عليه منهم.. وقيل انهم كانوا قوما من اليمن، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم، فتغلب مؤمنوهم على كفارهم. ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين. فخدوا لهم الاخاديد، وأحرقوهم فيها.
والبروج هي القصور العالية الشامخة، والمراد بها هنا المنازل الخاصة بالكواكب السيارة، ومداراتها الفلكية الهائلة وهي اثنا عشر منزلا: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان والاسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.. وسميت بالبروج لأنها بالنسبة لهذه الكواكب كالمنازل لساكنيها.. والمراد باليوم الموعود يوم القيامة لأن الله تعالى وعد الخلق به ليجازي فيه الذين أساءوا بما عملوا ويجازي الذين أحسنوا بالحسنى.. اما “الشاهد” فهو يوم القيامة.. و”المشهود” هو ما يشاهد في ذلك اليوم الرهيب من أهوال يشيب لها الولدان.
ومعنى هذه الآيات كما يوضح الدكتور طنطاوي ان الله عز وجل أقسم بحق السماء ذات البروج، وحق اليوم الموعود، وحق الشاهد والشهود انه قتل ولعن اصحاب الاخدود، وطردهم من رحمته بسبب كفرهم وبغيهم حيث كانوا يحفرون الاخدود، ويلهبون فيه النار ويلقون فيه بالمؤمنين، ويجلسون على حافات الاخدود ليروهم وهم يحرقون بالنار بقصد التشفي منهم، وهذا غاية القسوة والظلم ودليل على سواد قلوبهم وخلوها من أي رحمة او شفقة.
وقوله سبحانه: “وما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والارض والله على كل شيء شهيد”.. دليل على ان هؤلاء الكافرين ما كرهوا المؤمنين، وما أنزلوا بهم ما أنزلوا من عذاب الا لشيء واحد، وهو ان المؤمنين اخلصوا عبادتهم لله تعالى صاحب العزة التامة والحمد المطلق، والذي له ملك جميع ما في السماوات والارض، وهو سبحانه على كل شيء شهيد ورقيب لا يخفى عليه أمر من أمور العبادة او حال من احوالهم.. فالمقصود من هاتين الآيتين الكريمتين التعجب من حال هؤلاء المجرمين، حيث عذبوا المؤمنين، لا لشيء الا من اجل ايمانهم بخالقهم، وكأن الايمان في نظرهم جريمة تستحق الاحراق بالنار.. وهكذا النفوس عندما يستحوذ عليها الشيطان تتحول الحسنات في نظرها الى سيئات، وقديما قال المنكوسون من قوم لوط عليه السلام “اخرجوا آل لوط من قريتكم انهم أناس يتطهرون”.
اهداف متعددة
* لكن.. ما المقصود من ذكر قصة اصحاب الأخدود في القرآن الكريم؟
- يقول الدكتور طنطاوي: ان لكل قصة في القرآن الكريم اهدافا متعددة، وأبرز اهداف هذه القصة تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الايمان وتسليتهم عما اصابهم من اعدائهم، واعلام المسلمين الذين آمنوا برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ونصروه بأن ما نزل بهم من أذى على يد كفار قريش قد نزل ما هو في اكبر منه بالمؤمنين السابقين، فعليهم ان يصبروا كما صبر اسلافهم، وقد اقتضت سنة الله سبحانه وتعالى ان يجعل العاقبة للمتقين.
لقد توعد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة التي تحكي قصة اصحاب الاخدود كفار قريش بسوء المصير، اذا ما استمروا في ايذائهم للمؤمنين فقال تعالى: “ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات. ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق”، اي ان الظالمين الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات، واحرقوهم بالنار ثم لم يتوبوا الى الله تعالى من ذنوبهم ويرجعوا عن تعذيبهم للمؤمنين والمؤمنات، فلهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب اصرارهم على كفرهم وعدوانهم.. والمراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات كفار قريش، كأبي جهل، وأمية بن خلف وغيرهما، فقد عذبوا بلالا، وعمار بن ياسر، وأباه وأمه سمية.
ثم بين الله سبحانه وتعالى ما أعده للمؤمنين والمؤمنات من ثواب عظيم وعطاء كريم فقال: “ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجرى من تحتها الانهار ذلك هو الفوز الكبير”.
ومن ابرز العظات والعبر التي نأخذها من هذه القصة ان هذه الحياة قد جعلها الله تعالى نزاعا موصولا وصراعا دائما بين أهل الحق واهل الباطل، الا ان سنته عز وجل ان جعل العاقبة للمؤمنين الصادقين.
تحياتي ابوخالد